فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الطبري:

والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا، أن الله جل ثناؤه عم بقوله: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم}، فلم يخصص سفيهًا دون سفيه. فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيهًا ماله، صبيًا صغيرًا كان أو رجلا كبيرًا، ذكرًا كان أو أنثى.
والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتِّيه ماله، هو المستحقُّ الحجرَ بتضييعه مالَه وفسادِه وإفسادِه وسوء تدبيره ذلك.
وإنما قلنا ما قلنا، من أن المعنيَّ بقوله: {ولا تؤتوا السفهاء} هو من وصفنا دون غيره، لأن الله جل ثناؤه قال في الآية التي تتلوها: {وابْتَلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم}، فأمر أولياء اليتامى بدفع أموالهم إليهم إذا بلغوا النكاح وأونس منهم الرشد، وقد يدخل في اليتامى الذكور والإناث، فلم يخصص بالأمر بدفع ما لَهُم من الأموال، الذكورَ دون الإناث، ولا الإناث دون الذكور.
وإذْ كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أن الذين أمر أولياؤهم بدفعهم أموالهم، إليهم، وأجيز للمسلمين مبايعتهم ومعاملتهم، غير الذين أمر أولياؤهم بمنعهم أموالهم، وحُظِر على المسلمين مداينتهم ومعاملتهم.
فإذْ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ أن السفهاء الذين نهى الله المؤمنين أن يؤتوهم أموالهم، هم المستحقون الحجرَ والمستوجبون أن يُولى عليهم أموالهم، وهم من وصفنا صفتهم قبل، وأن من عدا ذلك فغير سفيه، لأن الحجر لا يستحقه من قد بلغ وأونس رشده.
وأما قول من قال: عنى بالسفهاء النساء خاصة، فإنه جعل اللغة على غير وجهها. وذلك أن العرب لا تكاد تجمع فعيلا على فُعَلاء إلا في جمع الذكور، أو الذكور والإناث. وأما إذا أرادوا جمع الإناث خاصة لا ذكران معهم، جمعوه على: فعائل وفعيلات، مثل: غريبة، تجمع غرائب وغريبات، فأما الغُرَباء، فجمع غريب. اهـ.

.قال القرطبي:

واختلف العلماء في أفعال السفيه قبل الحجر عليه؛ فقال مالك وجميع أصحابه غير ابن القاسم: إنّ فعل السفيه وأمره كلّه جائز حتى يضرب الإمام على يده.
وهو قول الشافعي وأبي يوسف.
وقال ابن القاسم: أفعاله غير جائزة وإن لم يضرب عليه الإمام.
وقال أصْبَغ: إن كان ظاهر السفه فأفعاله مردودة، وإن كان غير ظاهر السفه فلا تُردّ أفعاله حتى يحجر عليه الإمام.
واحتج سُحنون لقول مالك بأن قال: لو كانت أفعال السفيه مردودةً قبل الحجر ما احتاج السلطان أن يحجر على أحد.
وحجة ابن القاسم ما رواه البخاري من حديث جابر: أن رجلًا أعتق عبدًا ليس له مال غيره فردّه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن حجر عليه قبل ذلك.
الخامسة واختلفوا في الحجر على الكبير؛ فقال مالك وجمهور الفقهاء: يحجر عليه.
وقال أبو حنيفة: لا يحجر على من بلغ عاقلًا إلا أن يكون مفسدًا لمالهِ؛ فإذا كان كذلك مُنع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسًا وعشرين سنة، فإذا بلغها سُلّم إليه بكل حال، سواء كان مفسدًا أو غير مفسد؛ لأنه يُحبَل منه لاثنتي عشرة سنة، ثم يولد له لستة أشهر فيصير جَدًّا وأبا، وأنا أستحي أن أحجر على مَن يصلح أن يكون جَدًّا.
وقيل عنه: إن في مدّة المنع من المال إذا بلغ مفسدًا ينفذ تصرفه على الإطلاق، وإنما يُمنع من تسليم المال احتياطا.
وهذا كله ضعيف في النظر والأثر.
وقد روى الدَّارَقُطْنِيّ: حدّثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصوّاف أخبرنا حامد بن شعيب أخبرنا شُريح بن يونس أخبرنا يعقوب بن إبراهيم هو أبو يوسف القاضي أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر أتى الزبير فقال: إني اشتريت بيع كذا وكذا، وإن عليًّا يريد أن يأتي أمير المؤمنين فيسأله أن يحجر عليّ فيه.
فقال الزبير: أنا شريكك في البيع.
فأتى عليّ عثمان فقال: إن ابن جعفر اشترى بيع كذا وكذا فاحجر عليه.
فقال الزبير: فأنا شريكه في البيع.
فقال عثمان: كيف أحجر على رجل في بيعٍ شريكُه فيه الزبير؟ قال يعقوب: أنا آخذ بالحجر وأراه، وأحجر وأبطل بيع المحجور عليه وشراءه، وإذا اشترى أو باع قبل الحجر أجزت بَيعَه.
قال يعقوب بن إبراهيم: وإن أبا حنيفة لا يحجر ولا يأخذ بالحجر.
فقول عثمان: كيف أحجر على رجل، دليل على جواز الحجر على الكبير؛ فإن عبد الله بن جعفر ولدته أُمّه بأرض الحبشة، وهو أوّل مولود وُلد في الإسلام بها، وقدِم مع أبيه على النبيّ صلى الله عليه وسلم عامَ خَيْبر فسمع منه وحفِظ عنه.
وكانت خيبر سنة خمس من الهجرة.
وهذا يردّ على أبي حنيفة قوله. اهـ.

.قال الفخر:

ليس السفه في هؤلاء صفة ذم، ولا يفيد معنى العصيان لله تعالى، وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تمييزهم عن القيام بحفظ الأموال. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أنه تعالى أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال، قال تعالى: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين} [الإسراء: 26، 27] وقال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [الإسراء: 29] وقال تعالى: {والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} [الفرقان: 67] وقد رغب الله في حفظ المال في آية المداينة حيث أمر بالكتابة والاشهاد والرهن، والعقل أيضًا يؤيد ذلك، لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال لأن به يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار، فمن أراد الدنيا بهذا الغرض كانت الدنيا في حقه من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرة، أما من أرادها لنفسها ولعينها كانت من أعظم المعوقات عن كسب سعادة الآخرة. اهـ.
قال الفخر:
قوله تعالى: {التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} معناه أنه لا يحصل قيامكم ولا معاشكم إلا بهذا المال، فلما كان المال سببا للقيام والاستقلال سماه بالقيام إطلاقا لاسم المسبب على السبب على سبيل المبالغة، يعني كان هذا المال نفس قيامكم وابتغاء معاشكم، وقرأ نافع وابن عامر {التى جَعَلَ الله لَكُمْ قَيِّمًا} وقد يقال: هذا قيم وقيم، كما قال: {دينا قيما ملة إبراهيم} [الأنعام: 161] وقرأ عبد الله بن عمر {قواما} بالواو، وقوام الشيء ما يقام به كقولك: ملاك الأمر لما يملك به. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والمعنى أنّها تقويم عظيم لأحوال الناس.
وقيل: قيما جمع قِيمة أي التي جعلها الله قيمًا أي أثمانًا للأشياء، وليس فيه إيذان بالمعنى الجليل المتقدّم.
ومعنى قوله: {وارزقوهم فيها واكسوهم} واقع موقع الاحتراس أي لا تؤتوهم الأموال إيتاء تصرّف مطلق، ولكن آتوهم إيّاها بمقدار انتفاعهم من نفقة وكسوة، ولذلك قال فقهاؤنا: تسلّم للمحجور نفقته وكِسْوته إذا أمن عليها بحسب حاله وماله اهـ.

.قال الفخر:

قال الشافعي رحمه الله: البالغ إذا كان مبذرًا للمال مفسدًا له يحجر عليه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يحجر عليه.
حجة الشافعي: أنه سفيه، فوجب أن يحجر عليه، إنما قلنا إنه سفيه، لأن السفيه في اللغة، هو من خف وزنه.
ولا شك أن من كان مبذرا للمال مفسدًا له من غير فائدة، فإنه لا يكون له في القلب وقع عند العقلاء، فكان خفيف الوزن عندهم، فوجب أن يسمى بالسفيه، وإذا ثبت هذا لزم اندراجه تحت قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم}. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أنه تعالى إنما أمر بذلك لأن القول الجميل يؤثر في القلب فيزيل السفه، أما خلاف القول المعروف فإنه يزيد السفيه سفهًا ونقصانا.
والمفسرون ذكروا في تفسير القول المعروف وجوها: أحدها: قال ابن جريج ومجاهد: إنه العدة الجميلة من البر والصلة، وقال ابن عباس: هو مثل أن يقول: إذا ربحت في سفرتي هذه فعلت بك ما انت أهله، وان غنمت في غزاتي أعطيتك، وثانيها: قال ابن زيد: إنه الدعاء مثل أن يقول: عافانا الله وإياك بارك الله فيك، وبالجملة كل ما سكنت إليه النفوس وأحبته من قول وعمل فهو معروف وكل ما أنكرته وكرهته ونفرت منه فهو منكر، وثالثها: قال الزجاج: المعنى علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل، ورابعها: قال القفال رحمه الله القول المعروف هو أنه إن كان المولى عليه صبيا، فالولي يعرفه أن المال ماله وهو خازن له، وأنه إذا زال صباه فإنه يرد المال إليه، ونظير هذه الآية قوله: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} [الضحى: 9] معناه لا تعاشره بالتسلط عليه كما تعاشر العبيد، وكذا قوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا} [الإسراء: 28] وان كان المولى عليه سفيها وعظه ونصحه وحثه على الصلاة، ورغبه في ترك التبذير والاسراف، وعرفه أن عاقبة التبذير الفقر والاحتياج إلى الخلق إلى ما يشبه هذا النوع من الكلام، وهذا الوجه أحسن من سائر الوجوه التي حكيناها. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وارزقوهم فِيهَا واكسوهم} قيل: معناه اجعلوا لهم فيها أو أفرضوا لهم فيها.
وهذا فيمن يلزم الرجل نفقته وكسوته من زوجته وبنيه الأصاغر.
فكان هذا دليلًا على وجوب نفقة الولد على الوالد والزوجةِ على زوجها.
وفي البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة ما ترك غنىً واليدُ العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تَعُول تقول المرأة إمّا أن تُطعمَني وإمّا أن تطلِّقني ويقول العبد أطعمني واستعملني ويقول الابن أطعمني إلى من تَدَعُني» فقالوا: يا أبا هريرة، سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، هذا من كِيس أبي هريرة!.
قال المهلّب: النفقة على الأهل والعيال واجبة بإجماع؛ وهذا الحديث حجة في ذلك.
قال ابن المنذر: واختلفوا في نفقة من بلغ من الأبناء ولا مال له ولا كَسْب؛ فقالت طائفة: على الأب أن ينفق على ولدِه الذكور حتى يحتلموا، وعلى النساء حتى يتزوّجن ويُدخل بهن.
فإن طلقها بعد البِناء أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها.
وإن طلّقها قبل البِناء فهي على نفقتها.
ولا نفقة لولد الولد على الجدّ؛ هذا قول مالك.
وقالت طائفة: ينفق على ولدِ ولدِه حتى يبلغوا الحُلَم والمحيض.
ثم لا نفقة عليه إلا أن يكونوا زَمْنَى، وسواء في ذلك الذكور والإناث ما لم يكن لهم أموال، وسواء في ذلك ولده أو ولد ولده وإن سَفِلوا ما لم يكن لهم أب دونه يقدِر على النفقة عليهم؛ هذا قول الشافعي.
وأوجبت طائفة النفقة لجميع الأطفال والبالغين من الرجال والنساء إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن نفقة الوالد؛ على ظاهر قوله عليه السلام لِهند: «خُذِي ما يكفيكِ وولدَك بالمعروف» وفي حديث أبي هريرة: «يقول الابن أطْعِمْنِي إلى مَن تَدَعُني» يدل على أنه إنما يقول ذلك من لا طاقة له على الكسب والتَّحَرُّف.